ملائمة نظام اللاتركيز الإداري في المغرب مع متطلبات الجهوية المقدمة - ليلى طوير

 ملائمة نظام اللاتركيز الإداري في المغرب مع متطلبات الجهوية المقدمة 
 ليلى طوير دكتورة في القانون العام والعلوم السياسية

9anonak

تقديم:
مما لا شك فيه أن الإدارة المغربية قد عرفت في السنين الأخيرة مجموعة من التحولات المهمة التي تطورت معها مهامها ووظائفها كانعكاس طبيعي لتطور وظائف الدولة، التي لم تعد تقتصر فقط على القيام بوظائفها التقليدية، بل تطور دورها كذلك لمواجهة الحاجات المستحدثة للمجتمع، فأصبحت تتدخل في مجالات كانت حكرا على النشاط الفردي، إذ أصبحت تتحمل عبء الخدمات الاجتماعية العامة، كما أصبح تدخلها في المجال الاقتصادي أكثر من مجرد الإشراف والتنظيم فوقع عليها واجب التنمية الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي لم تستطع معه مواجهة الحاجات والمتطلبات التي أصبحت من مسؤولياتها، نظرا لتشعب وظائفها، فلم يعد بإمكان الحكومة المركزية أن تستجيب لمختلف حاجيات المجتمع، بحيث لا تستطيع أن تولي اهتماما لمختلف جهات الدولة وبالتالي يصعب عليها إدارة شؤونها، السبب الذي أدى إلى الاعتراف تدريجيا للجماعات الترابية، ومنها الجهات بأدوار هامة تهدف إلى تحقيق التنمية الترابية وفقا لمقاربات السياسة العامة.
ومن أجل تحقيق هذه الغايات، لا تستطيع الجهات لوحدها النهوض بهذا الدور، بل تحتاج إلى تدخل فاعلين آخرين يندرجون في إطار سياسة عدم التمركز الإداري، التي تعمل على إحداث أجهزة إدارية تابعة للإدارة المركزية على مستوى مختلف التقسيمات الإدارية التي يتم إحداثها، حيث تعتبر وسيلة لممارسة السلطة الإدارية المركزية التي تستهدف المساهمة في الرفع من سلطات الممثلين المحليين للسلطة المركزية. وبالنظر إلى امتداد النشاط الإداري إلى مستويات متعددة من مراكز القرار في مختلف الجهات، فإن عدم التمركز الإداري يتطلب، وفقا لذلك، إقامة عدد متزايد من مراكز القرار في مختلف المناطق لتتولى تدبير إدارة مختلف المصالح والمرافق الاقتصادية والاجتماعية بكفاءة عالية وبأقل التكاليف المالية، لذلك يحظى موضوع: "ملائمة نظام اللاتركيز الإداري في المغرب مع متطلبات الجهوية المقدمة"، بأهميته الخاصة من منطلق العلاقة التي تربط بين النظامين، لكون الجهوية المتقدمة مركزا لتوطيد اللاتمركز الإداري، على اعتبار أن الجهة تشكل المستوى الأكثر ملائمة لتحقيق تكامل منتج وعملي اقتصاديا واجتماعيا بين الجهوية المتقدمة واللاتمركز الإداري. كما أنها الجماعة الترابية المؤهلة أكثر لتطبيق السياسات العمومية في ميداني الاستثمار والتشغيل. لذلك شكلت الجهة المجال الأكثر تناسبا لتوطيد اللاتمركز الإداري مقارنة بالمستويين الإقليمي والجماعي، نظرا للعدد المحدود للجهات بعد تقليصها من 16 إلى 12 بموجب الإصلاح الأخير للشأن الترابي. وبالتالي، فالجهة هي المستوى الملائم لتنشيط وتنسيق سياسات الدولة المتعلقة بالبيئة والثقافة والمجال القروي، ومحور للبرمجة وتوزيع اعتمادات الاستثمارات التي تقوم بها الدولة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الجهة تعد فضاء للتعاقد المتعدد السنوات بين الدولة والجماعات الترابية...الخ.
وعلى أساس ذلك، فإن العناصر السالفة الذكر، هي التي شكلت لنا حافزا معنويا لاختيار هذا الموضوع والاشتغال عليه، خصوصا وأن الخطب الملكية ما فتئت تركز على أهمية اللاتمركز الإداري كلازمة أساسية للجهوية المتقدمة، الأمر الذي نستجلي معالمه من خلال التوجيهات الملكية للحكومة للإسراع بإخراج ميثاق اللاتمركز الإداري، فضلا عن مجموعة من التوصيات الصادرة عن الملتقيات التي عقدت حول الجماعات الترابية، وعن اللجنة الاستشارية للجهوية. بالإضافة إلى ذلك، فإنه لم يتم الاهتمام باللاتمركز الإداري كموضوع رئيسي من بين مواضيع التنظيم الإداري، بل تم التطرق إليه كموضوع ثانوي سواء في خطابات الفاعلين السياسيين أو على المستوى الأكاديمي، بمعنى آخر غياب اهتمام الدولة بهذا الموضوع مع العلم أنه من المواضيع التي ينبغي أن تحظى بنقاش واسع خاصة في الدول الموحدة مثل المغرب وفي سياق الجهوية المتقدمة ذات الخصوصية المغربية.
كما ترتبط دراسة موضوع: "ملائمة نظام اللاتركيز الإداري في المغرب مع متطلبات الجهوية المتقدمة"، بالوقوف على العديد من الصعوبات، منها ما يرتبط بما هو مكتبي، كندرة البحوث والكتابات التي تتناول الموضوع بشكل مباشر بالدراسة والتحليل والتشريح لطبيعة وآليات الملاءمة بين النظامين الإداريين، ومنها ما يرتبط بما هو ميداني عملي، يتعلق بصعوبة الوصول إلى المعطيات والمعلومات والإحصائيات خاصة لدى الوزارة الوصية (الداخلية) في مرحلة أولى، ولدى مجالس الجهات في نسخها الجديدة بعد انتخابات 2015 في مرحلة ثانية.
أما الإشكالية الرئيسية التي نحاول الإجابة عليها، والخاصة بكيفية ملائمة نظام اللاتركيز الإداري في المغرب مع متطلبات الجهوية المقدمة، كما هو معمول به في التجارب الجهوية المقارنة؟. وهي الإشكالية التي تتفرع عنها الإشكاليات الفرعية المرتبطة بما إذا كان لأي دارس أو باحث للتوجهات الحديثة في تدبير الشأن الإداري الترابي (بمستوييه اللاتركيز الإداري والجهوية المتقدمة)، أن يربط هذين العنصرين بميكانيزماتهما ومحيطهما الإداري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي؟، وهل هناك نوعا من الترابط والتداخل بين كل هذه المكونات؟. وأخيرا إذا كان اللاتركيز الإداري كنظام للمركزية الإدارية، وكانت الجهوية المتقدمة صورة متطورة للامركزية الإدارية، ويمارسهما جهازين مختلفين، فما هو السبيل إلى التوفيق والمواءمة بين النظامين؟.
و يتطلب البحث في الإشكالية الرئيسية الخاصة بموضوع البحث، وتحليل باقي الإشكاليات الفرعية المرتبطة بها، الاستعانة بمجموعة من مناهج البحث المتعارف عليها أكاديميا والتي يكمل أحدهما الآخر:
المنهج الاستقرائي والمنهج المقارن  والمنهج الوصفي في دراسة الموضوع عند تحليل نموذج من التشريعات الإدارية المقارنة سواء منها الفرانكفونية، فرنسا نموذجا، أو القوانين الأنجلسكسونية، كما هو الحال في ألمانيا، الغاية من ذلك القيام بدراسة معمقة بغرض الكشف عن القاسم المشترك الذي يبين مكانة اللاتركيز الإداري في تلك النظم الإدارية، من خلال الربط بين السبب والمسبب، والانتهاء إلى فكرة عامة عن واقع اللاتركيز الإداري والجهوية المتقدمة في كل نموذج إداري على حدة، حتى يتسنى الخروج بالخلاصات والتوصيات التي يمكن لتشريعنا المغربي الاهتداء بها، مع تطبيق النموذج الأقرب له من حيث الخصوصيات والبنيات والواقع،ومع قياس درجة نجاح تطبيقه في ظل المبادئ الموجهة للحكامة المحلية، مع الأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات التي تميز كل نظام إداري على حدة للدول موضوع الدراسة.
وعليه  يمكن تقسيم الموضوع إلى قسمين ،يتعرض الأول إلى مرتكزات نظام اللاتركيز الإداري ومتطلبات الجهوية المتقدمة بالمغرب،عن طريق تناوله في شقين،يرصد الأول أسس ملائمة نظام اللاتركيز الإداري ومتطلبات الجهوية المتقدمة بالمغرب،في حين ينفرد الثاني بدراسة آليات ملائمة نظام اللاتركيز الإداري مع متطلبات الجهوية المتقدمة.
أما القسم الثاني فيستعرض دور مبادئ الحكامة الترابية في ملائمة نظام اللاتركيز الإداري مع الجهوية المتقدمة في ظل التجارب المقارنة،خصوصا على مستوى سبل تطوير هذا النظام من جهة، و آفاق إصلاح التجربة المغربية من جهة أخرى.
لا أحد اليوم يجادل في كون نظامي اللامركزية الجهوية وعدم التركيز الإداريين مترابطين في علاقة جدلية، يؤثر أداء كل منهما على الآخر سلبا أو إيجابا غير أن السمة التي تطبع.  هذه العلاقة هي التأخر الكبير للاتركيز عن اللامركزية الجهوية، الشيء الذي أدى إلى صعوبات كبيرة على مستوى الأداء العام للإدارة المغربية ذات السمة التمركزية و نشوء سلوكات ضارة أثرت حتى على مستوى اللامركزية الجهوية، فعدم التركيز الإداري من شأنه أن يوفر إدارة ترابية أكثر قربا من المواطنين للتخفيف عن الروتين الإداري و تبسيط المساطر و تسريع التنفيذ.....الخ. لكن العائق الأكبر في وجه اللاتمركز  الإداري يكمن في المركزية الشديدة التي تعاني منها الإدارة المغربية من حيث اتخاذ القرار، والتي تعيق المصالح الخارجية للوزارات التي لا تتوفر على الصلاحيات والوسائل اللازمة، بينما تحتاج الجماعات الجهوية لممارسة اختصاصاتها بصفة ملائمة أن تجد في عين المكان مخاطبين أكفاء في مصالح الدولة قادرين على اتخاذ القرار في ذلك المستوى. لذلك فإن توسيع و تطوير نظام عدم التركيز ليس فقط وسيلة لتحسين فعالية إدارة الدولة، بل هو شرط مسبق لإنجاح اللامركزية الجهوية.
ويلاحظ في هذا الصدد أنه بالرغم من المجهود المبذول على مستوى تشييد شبكة واسعة من الإدارات الترابية، فلازالت الإدارة المركزية تركز وتحتكر السلطات والاختصاصات والوسائل المادية والبشرية بشكل تتحول معه المندوبيات أو المصالح الخارجية عموما إلى مجرد محطات للتنفيذ، وجمع المعلومات وضعف الهامش المتاح لها في اتخاذ القرارات في هذا المسلسل، لذلك فنظام اللاتمركز الإداري، رغم بعض المحاولات المعلنة لتطويره في بعض المجالات ظل في الواقع متخلفا ولا يواكب نظام اللامركزية لأسباب قانونية، وسياسية، ونفسية،و تقنية، ومالية....الخ. كما أن عدم مواكبة اللاتركيز الإداري للتطور الحاصل في ميدان اللامركزية الجهوية يعرقل مسار التنمية الترابية، ويطرح أكثر من استفهام حول جدوى تعامل الجماعات الترابية، مع مصالح تقنية محلية ضعيفة الإمكانات المادية والبشرية ومفتقرة لسلطة القرار، في حين أن الخطاب الرسمي بدأ يستوعب هذه الاستنتاجات، ويقر بأهمية الرقي بنظام عدم التركيز  الإداري إلى المستوى المطلوب.                                                                                                                        
وعلى هذا الأساس تبلور الإجماع حول حتمية ربط تطور اللامركزية الجهوية بتطوير نظام عدم التركيز الإداري، وبمعنى آخر فمن أجل جهوية متقدمة جيدة لابد من لا تمركز جيد، وفي هذا المستوى تلتقي الجهة – كجماعة ترابية- مع اللاتمركز الإداري كتقنية تسمح بإعادة توزيع الصلاحيات عموديا داخل الجهاز الإداري، وفرصة مواتية لإصلاح الهياكل التنظيمية للإدارات، هذا الإصلاح الذي يروم التقليص من الهياكل الإدارية المركزية وتقوية اختصاصات وسلطة المصالح الخارجية حتى يمكن ضمان تمثيل أحسن لمصالح الدولة على الصعيد الجهوي. كما أن الإدارة الجهوية مدعوة أكثر لإعادة هيكلة بنياتها وأساليب عملها تماشيا مع التطورات المتلاحقة التي يشهدها النظام الإداري المغربي بوجه عام والجهوي بوجه خاص، وتبعا للمسؤوليات التي أصبحت تضطلع بها هذه الإدارة والتي لم تعد تقتصر على الوظائف التقليدية المرتبطة بالحفاظ على الأمن والنظام العامين، بل تعدت ذلك إلى المساهمة الفعالة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فإن ذلك يفترض بالضرورة تجميعا للجهود وتوحيدا للأنشطة من أجل تحقيق الأهداف والغايات المسطرة.
ختاما ينبغي التأكيد على أنه  بالرغم من أن المغرب قد عرف تجربة تخطيط تصاعدي في إطار الجهة الاقتصادية، إلا أن التصور الترابي المندمج للسياسات العمومية ظل غائبا حيث شكل بطئ صيرورة اللاتمركز الإداري ونموذج التوزيع والتنسيق الترابي للمصالح اللاممركزة عائقا وازنا للسياسات العمومية. فالتجربة القصيرة للجهوية المتقدمة منذ 2015 أثبتت أن إعطاء معنى حديث للتدبير المحلي اللامتمركز والواسع، يفترض بالضرورة تعاونا حقيقيا بين ممثلي الدولة والوزارات المختلفة من جهة، وممثلي الجماعات الترابية الأخرى خصوصا الجهة باعتبارها تحتل مكانة الصدارة في هرم التمثيل الترابي من جهة أخرى، وهو أمر مشروط بتحقق تناغم الفعل العمومي للسياسات الترابية.
إن الإدارة الجهوية مدعوة أكثر لإعادة هيكلة بنياتها وأساليب عملها تماشيا مع التطورات المتلاحقة التي يشهدها النظام الإداري المغربي بوجه عام والجهوي بوجه خاص، وتبعا للمسؤوليات التي أصبحت تضطلع بها هذه الإدارة والتي لم تعد تقتصر على الوظائف التقليدية المرتبطة بالحفاظ على الأمن والنظام العامين، بل تعدت ذلك إلى المساهمة الفعالة في التنمية الاقتصادية  والاجتماعية، فإن ذلك يفترض بالضرورة تجميعا للجهود وتوحيدا للأنشطة من أجل تحقيق الأهداف والغايات المسطرة. ومن أجل بلورة هذه التدابير وتجسيد اللاتركيز الإداري كممارسة واقعية، فإن ذلك يتطلب اعتماد سياسة هادفة وفعالة في هذا الميدان، وعلى هذا الأساس فإن الضرورات العملية لتطوير هذا المسلسل نجملها في إقدام الإدارات المركزية على إحداث مصالح خارجية ممثلة لها على صعيد كل الجهات. وتزويد المصالح الخارجية بالوسائل المادية والبشرية، وتمكينها من التدبير الجيد للقطاعات التابعة لها. وتدعيم سلطة القرار لصالح المندوبين الجهويين. فمن شأن هذه الإجراءات أن تساهم في تقوية هياكل الإدارة الجهوية المنتخبة، والعمل على تهيئ مخاطبين أكفاء للإدارة الجهوية المعنية بما يخدم الهدف العام للتنمية الجهوية. كما يتطلب الأمر وضع إطار قانوني يشكل ميثاق وطني توضح فيه الأدوار بشكل يسمح بتطوير فعالية النشاط الإداري. ومن المؤكد أن اتخاذ تطورات عملية في هذا  الاتجاه يساهم ليس فقط في توطيد نظامنا الإداري الجهوي، بل سيعمل كذلك على تركيز أسس نظام إداري عام وشامل من شأنه الاستجابة لكل التحديات المطروحة والانشغالات التي تفرضها ضرورات التنمية.